دراسة في القانون: دور النيابة العامة في القانون المنظم لمهنة التوثيق

تعرف المجتمعات باختلافها تطورا مستمرا، نتيجة تطور الإعلاميات والتكنولوجيا بصفة عامة، الشيء الذي جعل المسافة بين الأفراد والمجتمعات صغيرة جدا، مما أصبح معه إمكانية تصادم المصالح تزداد سواء بين الأفراد أو المجتمعات. وهكذا، فكل دولة تسعى إلى ضمان السلم الاجتماعي الداخلي، عبر تعاقد الدولة مع أفراد المجتمع من جهة وإعطاء حجية وضمانة للعقود التي يبرمها الأفراد في ما بينهم داخل المجتمع
 من جهة ثانية وكذا على الصعيد الإقليمي والدولي، عبر  الاتفاقيات والمواثيق الدولية. يمكن القول بأن المشرع أعطى للنيابة العامة تحريك المتابعات التأديبية للموثقين من خلال المادة 70 التي تنص على أنه: «يمكن أن تخضع مكاتب الموثقين لعمليات تفتيش تتعلق إما بموضوع معين أو بمجموع النشاط المهني للموثق». وما يزكي هذا الطرح، ما جاءت به المادة 71 التي تنص على أنه:» يجب عند نهاية كل عملية رفع تقرير إلى الوكيل العام للملك ما لم يكن هو الذي قام بالعملية...» ونعتقد أن اعتماد المشرع مصطلح العملية فيه دليل على اختلاف المراقبة عن البحث والتفتيش والإطلاع الواسع والمراجعة، وهكذا يتم رفع تقرير إلى الوكيل العام للملك كيف ما كانت نتيجة العملية، بمعنى سواء ارتكب مخالفة أم لا، أما المجالس الجهوية في شخص رئيسها ورئيس المجلس الوطني عند الاقتضاء فلا يتم إشعارهما إلا إذا تبين من التفتيش وجود مخالفات خطيرة أو وضعيات من شأنها المس بأمن المحفوظات والودائع. على اعتبار أن التفتيش لا يحضره رئيس المجلس الجهوي حسب مقتضيات المادة 69 في فقرتها الثانية، على عكس المراقبة التي يمكنه حضورها كما يمكنه القيام بها بمفرده أي بدون حضور النيابة العامة، حسب مقتضيات المادة 65.
ومن خلال ما سبق، يمكن القول إن النيابة العامة ممثلة في الوكيل العام للملك أو من ينوب عنه تكون حاضرة في أي مراقبة يخضع لها مكتب الموثق، فإن لم تكن حاضرة حضورا ماديا، فإنها تكون كذلك معنويا عبر التقارير التي ترفع إليها. على اعتبار أنها الجهة التي منحها المشرع سلطة الملاءمة لاتخاذ ما تراه مناسبا على ضوء هذه التقارير.
ثانيا: دور النيابة العامة في تأديب الموثقين.
ليس من المنطقي دراسة دور النيابة العامة في الشق المتعلق بتأديب الموثقين، على اعتبار أن مسألة إصدار المقررات التأديبية تبقى من اختصاص المجالس التأديبية بالنسبة للمخالفات التأديبية وللمحكمة بالنسبة للمتابعات الزجرية، في حين يكون للنيابة العامة الدور الأساسي في تحريك الدعوى العمومية، ولا تحول المتابعات التأديبية دون ذلك، كما أنها تكون حاضرة في المجلس التأديبي المتمثل في اللجنة المشار إليها في المادة 11 بواسطة الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو نائبه. كما أن النيابة العامة هي المحرك للمتابعات التأديبية بواسطة الوكيل العام للملك لمحكمة الاستئناف المعين بدائرتها الموثق، وهو يقوم بذلك إما بشكل تلقائي حسب ما يبلغ إلى عمله من مخالفات، أو بناء على ملتمس مقدم من قبل رئيس المجلس الجهوي. وإن كانت هذه المقتضيات لا تثير إشكالا، فإن ما يثير بعض النقاش ما جاءت به المادة 78 التي تنص على أنه يمكن للوكيل العام للملك كلما فتحت متابعة تأديبية أو جنحية أو جنائية ضد موثق، إما لأسباب مهنية أو عند اعتقاله بسبب يمس الشرف أن يوقفه مؤقتا من عمله بإذن من وزير العدل. في هذه الفقرة تحتاج النيابة العامة لإذن الإدارة المركزية، غير أنه يمكن الاستغناء عن الأخير بتطبيق الفقرة الثانية التي تنص على أنه يمكن وفق الكيفية نفسها الأمر بالإيقاف المؤقت ولو قبل إجراء المتابعات الجنائية أو التأديبية، إذا ثبت من أي مراقبة أو تفتيش وجود خطورة على أصول العقود والمحفوظات والأموال والسندات والقيم المؤتمن عليها. وفي هذه الحالة يقوم الوكيل العام للملك بتبليغ الأمر بالإيقاف المؤقت إلى المعني بالأمر وإلى المجلس الجهوي للموثقين ويسهر على تنفيذه. وهو الإجراء المنتقد من قبل الفقه،
على اعتبار أن النيابة العامة تجمع بين صفة الخصم والحكم في آن واحد، وإن كان الأمر يتعلق بتدبير احترازي ومؤقت. كما أن الموثق المعني بالأمر يمكنه الطعن في ذلك القرار أمام اللجنة المشار إليها في المادة 11 التي يتعين عليها البحث في أقرب أجل ممكن قصد تسوية وضعيته، وما يزيد من حدة الانتقاد هو أن مدة التوقيف يمكن أن تصل إلى ثلاثة أشهر إذا لم يصدر قرار بالمتابعة وفي هذه الحالة يستأنف الموثق مهامه تلقائيا وبقوة القانون، بعد الإدلاء بشهادة من رئيس اللجنة المشار إليها في المادة 11 وهي مدة طويلة جدا بالنسبة لمهنة حرة رأسمال صاحبها هو سمعته وسط زبنائه، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤثر كثيرا على مساره المهني، ودليل ذلك هو أن العقوبة التأديبية التي يمكن أن يتعرض لها الموثق بعد ثبوت إدانته المتعلقة بالإيقاف عن ممارسة المهنة فإنها لا تتجاوز سنة، وهي أخطر عقوبة يمكن أن تصدر في حقه بعد عقوبة العزل، وبالتالي يتضح أن المشرع يعي جيدا مدى خطورة الإيقاف المؤقت عن ممارسة الموثق لمهامه، وبالتالي كان عليه ومراعاة للفلسفة نفسها، أن يقلل من هذه المدة أو بالأحرى أن يمنح حق الإيقاف المؤقت لجهة أخرى غير النيابة العامة مؤسسة رئيس محكمة الاستئناف أو المجلس الجهوي، وذلك بناء على ملتمس من الوكيل العام للملك وبذلك يحقق الأهداف الاحترازية من الإيقاف المؤقت، ويتفادى كثرة الانتقادات الموجهة في هذا الإطار، وإن كان هذا الدور ليس حكرا على مهنة التوثيق بل إن النيابة العامة تمارسه في إطار بعض المهن القضائية الأخرى.
 ختام هذه القراءة المتواضعة لهذا القانون٬ على ضوء الدور المنوط بالنيابة العامة هذه الأخيرة التي يحددها المشرع في  الوكيل العام للملك أو من ينوب عنه وفي بعض المواد في الوكيل العام للملك٬ دون الإشارة إلى من ينوب عنه كأن الإجراء يقتصر على شخصه فقط٬ غير أن هذا الأمر لا يمكننا أن نستصيغه على اعتبار أن من شأن هذه القراءة، أن تأخر تفعيل الإجراءات نظرا للمسؤوليات الملقاة على عاتقه٬ ونظرا لكثرة التزاماته٬ مما سيكون معه ذلك عائقا في خدمة مؤسسة التوثيق أكثر من كونه تشريف لها، ومادام هذا القانون لا يزال في المراحل الأولى من تفعيله فإننا لن نمد أيدينا إلى المشرع لمطالبته بالتدخل لإعادة صياغة النصوص القانونية التي يبدو لنا أنها تثير بعض اللبس٬ ولكن بالمقابل سنمدها إلى الجهات المعنية بتطبيقها وأخص بالذكر مؤسسة النيابة العامة والمجالس الجهوية للموثقين٬
ومطالبتها بتوحيد الرؤى والاجتهاد في تطبيق النصوص القانونية، عبر البحث المشترك عن فلسفة المشرع وأهدافه الحقيقية والأخذ بعين الاعتبار أن الأمن التعاقدي، يعتبر رقم أساسي في معادلة السلم الاجتماعي، كما أن النجاعة في تطبيق النصوص القانونية لا تعود لجودة النصوص القانونية من حيث صياغتها٬ بل لجودة تطبيقها فالتطبيق السليم والمرن للنصوص القانونية هو الكفيل بسد النقائص والثغرات الموجودة بها.
بقلم:  يوسف أقصبي : باحث في العلوم القانونية
جريدة الصباح لثلاثاء, 09 يوليو2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق